مجالس قطرات العلم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

علوم شرعية


    اليقين والزهد

    أم أبي التراب
    أم أبي التراب


    المساهمات : 145
    تاريخ التسجيل : 29/05/2010

    اليقين والزهد Empty اليقين والزهد

    مُساهمة  أم أبي التراب الإثنين مايو 08, 2017 8:41 am

    المجـلـس السابع والعشرون
    الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة
    إنَّ الحَمْدَ لله، نَحْمَدُه، ونستعينُه، ونستغفرُهُ، ونعوذُ به مِن شُرُورِ أنفُسِنَا، وَمِنْ سيئاتِ أعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِه الله فَلا مُضِلَّ لَهُ، ومن يُضْلِلْ، فَلا هَادِي لَهُ.وأَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبْدُه ورَسُولُه .
    حديثنا اليوم عن خصلة من خصال المؤمنين، وخلة لعباد الله المحسنين، خلة قامت لها السماوات والأرض، وشهدت بها سماوات الله وأرضه، ألا وهي اليقين بالله، فكل ما في هذا الكون ليله ونهاره، صباحه ومساؤه، يذكرك بالله، فيقول لك بلسان الحال والمقال: لا إله إلا الله.
     قال تعالى:
    "وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ" الذاريات 20 .
    " إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ "آل عمران190.

    "وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ "الأنعام75.


    ¤ اليقين¤
    *"عليكم بالصِّدْقِ ؛ فإنَّهُ مع البِرِّ ، وهُما في الجنةِ ، وإيَّاكمْ والكذِبَ ، فإنَّهُ مع الفُجورِ ، وهُما في النارِ ، وسَلُوا اللهَ اليقينَ والمُعافاةَ ؛ فإنَّهُ لمْ يُؤْتَ أحدٌ بعدَ اليقينِ خيْرًا من المُعافاةِ ، ولا تَحاسَدُوا ، ولا تَباغَضُوا ، ولا تَقاطَعُوا ، ولا تَدابَرُوا ، وكُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوانًا ، كَمَا أمرَكُمُ اللهُ"
    الراوي : أبو بكر الصديق| المحدث : الألباني| المصدر : صحيح الجامع
    الصفحة أو الرقم: 4072 | خلاصة حكم المحدث : صحيح-الدرر.

    *"صلاحُ أوَّلِ هذهِ الأُمَّةِ بالزُّهدِ واليَقينِ ، وهلاكُ آخِرِها بالبُخلِ والأمَلِ"
    الراوي : عبدالله بن عمرو| المحدث : الألباني| المصدر : صحيح الترغيب-الصفحة أو الرقم: 3215 | خلاصة حكم المحدث : حسن لغيره .الدرر .
    * اليقين الذي يقول عنه العالمُ الرباني طبيب القلوب ابن القيم رحمه الله :
    اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد ، وفيه تفاضل العارفون ، وفيه تنافس المتنافسون ، وإليه شمَّر العاملون.ا.هـ .

    ¤الأنبياء واليقين¤

    اليقين هو خُلق أنبياء الله وعباده الصالحين، رفع الله به درجاتهم، وكفَّر به خطيئاتهم، وأوجب لهم الحب منه والرضوان، والصفح من لدنه والغفران،
    ¤آدم ¤عليه السلام:
    إنه اليقين بالله الذي وقف معه نبي الله آدم أبو البشرية جمعاء، وقف عليه السلام في موقف أليم إذ أحس بالذنب في حق ربِّهِ الكريم، وقد بدت له سوءَتُهُ، فطفق هو وزوجه يخصفان عليهما من ورق الجنة،" فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى "طه121 ، فجاءه اليقين بالله فنادى ربه وناجاه، فغفر الله ذنبه، وستر عيبه وكفَّر خطيئته، "قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ "الأعراف23.
    قال آدم وحواء: ربنا ظلمنا أنفسنا بالأكل من الشجرة, وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن ممن أضاعوا حظَّهم في دنياهم وأخراهم.
    "فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" البقرة :37.
    ¤ يُونُسُ بْنُ مَتَّى ¤عليه السلام
    "وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ "الأنبياء87.
    هذا اليقين الذي دخل به  يُونُسُ بْنُ مَتَّى عليه السلام بطن الحوت في ظلمات ثلاث، لا يراه إلا الله، ولا يطلع على خبيئة قلبه من الآلام والحسرات سوى الله، فناداه وناجاه، وتقرب إليه جل في علاه، "فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ "الأنبياء87.
    ، فناداه بهذا النداء وكله يقين بأن الله سيرحمه، وناجاه بهذه النجوى وكله يقين بأن الله سيلطف به، فأخرجه الله من الظلمات إلى رحمة فاطر الأرض والسماوات،
    ¤أيوب عليه السلام¤
    "وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ *83" فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ‏" الأنبياء : 84.
    توسل إلى الله بالإخبار عن حال نفسه، وأنه بلغ الضر منه كل مبلغ، وبرحمة ربه الواسعة العامة فاستجاب الله له،قال سبحانه
    "ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ "ص42.
    هذا اليقين الذي وقف به أيوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقد أصابه الضر والبلوى، وعظُمت عليه الشكوى، فنادى ربه جل وعلا، فناداه وناجاه بقلب لا يعرف أحدًا سواه، ففرج الله عز وجل كربه، ونفسَّ همه وغمه، ورد عليه ما افتقده.
    هذا اليقين الذي وقف به الأنبياء والمرسلون في أشد الشدائد، وأعظم المكائد، فكان الله عز وجل بهم رحيمًا، وبحالهم عليمًا، ففرج عنهم الخطوب، وأزال عنهم الهموم والكروب.
    ¤موسى عليه السلام¤
    وقف موسى عليه الصلاة والسلام البحر أمامه والعدو وراءه ومعه أمة خرجت ذليلة لله، مستجيبة لأمر الله، فوقف أمام البحر فلما قال له بنو إسرائيل: " فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ }الشعراء61. قال واليقين معمور به قلبه ومليءٌ به فؤاده: "قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ "الشعراء:62 ، كلا؛ لا أُدرك ولا أُهان ومعي الواحد الديان، ففي طرفة عين تنزلت أوامر الله:
    " فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ }الشعراء63 .
    "وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى "طه77.
    وإذا بتلك الأمواج المتلاطمة العظيمة تنقلب في طرفة عين إلى أرض يابسة، وإذا به على أرض لا يخاف دركًا فيها ولا يخشى،  ، سبحان الله! بحر عظيم؛ وفي طرفة عين تنقلب أمواجه إلى صفحة لا يجد فيها رذاذ الماء، ويضرب لهذه الأمة المستضعفة الموقنة بالله جل وعلا طريقًا في ذلك البحر لا يخاف دركًا ولا يخشى، " لَّا تَخَافُ دَرَكًا " أي أن يدركك فرعون " وَلَا تَخْشَى" غرقًا ،كل ذلك باليقين بالله.

    اليقين أعظم زاد:
    سار الصالحون على نهج الأنبياء¬، واتبع آثارهم عباد الله المهتدون، فما نزلت بهم خطوب، ولا أحاطت بهم كروب، إلا عاذوا بالله علام الغيوب، والمؤمن في كل زمان ومكان يحتاج إلى هذا اليقين بالله، تحتاجه إذا عَظُمَتْ منك الذنوبُ، وعظمت منك الإساءة في حق الله، تحتاجه وأنت مع أهلك وولدك، وتحتاجه وأنت مع عدوك، وصديقك، ولذلك كان لزاماً على كل من يحب الله أن لا يمسي ويصبح وفي قلبه غير الله، وإذا أراد الله أن يحبك وأن يصطفيك ويجتبيك ألهمك أن يكون قلبك متعلقاً به جل جلاله، إذا أردت أن يحبك الله كمال المحبة، فلا تمسينّ ولا تصبحنّ وفي قلبك غير الله وحده، تدور أحزانك وتدور أفراحك مع الله، وجميع شُعب قلبك منيبة إليه، فكم في عباد الله من أناس ملئوا قلوبهم بحب الله واليقين به، فكان الله معهم، ومن ذكر الله ذكره الله، ومن ذكره الله فالأمن له كل الأمن.

    لذلك كان من منازل العبودية ودلائل الإنابة إلى الله أن توقن بالله الذي لا إله إلا هو، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: واليقين من منازل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]. فمن قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، فإن الله يمتحنه باليقين.
    http://audio.islamweb.net/audio/index.php?page=FullContent&audioid=88876
    أم أبي التراب
    أم أبي التراب


    المساهمات : 145
    تاريخ التسجيل : 29/05/2010

    اليقين والزهد Empty رد: اليقين والزهد

    مُساهمة  أم أبي التراب الإثنين مايو 08, 2017 9:47 am

    دلائل اليقين
    *عدم صرف الحب والخوف لغير الله: إن اليقين بالله له دلائل، وهذه الدلائل تجدها في نفسك، وتجدها في قلبك، ومن أعظمها: أنك لا تمسي ولا وتصبح وفي قلبك أحد أحب إليك من الله، فإذا أمسيت وأصبحت وأخوف ما يكون في قلبك هو الله، وأحب ما يكون في قلبك هو الله فاعلم أن الله قد أعطاك اليقين، فلا تمسي ولا تصبح وفي قلبك حب لغير الله أكثر من حبك لله، وتمسي وتصبح وليس في قلبك خوف من أحد إلا الله جل وعلا.
    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعمر قلوبنا وقلوبكم باليقين به، وأن يجعلنا وإياكم من أهل اليقين الذين أوجب لهم درجات النعيم.
    *جعلُ الإنسان الآخرة نُصْب عينيه:
    الدليل الثاني على دلائل اليقين: فهو أن يجعلَ الإنسانُ الآخرةَ نُصْب عينيه.
    فكما أن اليقين يكون بالفرج، يكون كذلك بيقين الإنسان أنه إلى الله صائر، وأنه منقلب بين الجنادل في الحفائر، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يحركون القلوب باليقين بالآخرة، ولقد ذكر الله عز وجل في كتابه أن من أيقن بالآخرة صحت عبادته وكملت زهادته، فقال جل ذكره: "وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ "البقرة:45-46.
    التعلق بغير الله ينافي اليقين:
    هذه العبارة تقطع قلوب المؤمنين، عبارة تدل على بعدنا عن الله وطول غربتنا عن داعي الله وجهلنا بعظمة الله عز وجل، فكم من أناس بيننا إذا نزلت بهم الشدائد وأحاطت بهم الهموم والغموم تعلقوا بغير الله والعياذ بالله! وكم من أناس بيننا يقولون: لا إله إلا الله؛ ولكن يعظمون الأسباب ويحبونها أشد من حبهم لله، فكم من مريض أصابه المرض ظن أن طبيبه يداويه وأنه يعافيه ويشفيه، فنقص الإيمان من قلبه على قدر ما فات من يقينه، وكم من مديونٍ ظن أن عبداً يفك دينه ويقضي حاجته فخيب الله ظنه وقطع رجاءه، فأصبح فقيراً صفر اليدين من اليقين به جل جلاله.
    لذلك لا يليق بالإنسان أن يعلق رجاءه بغير الله، والله تبارك وتعالى إذا امتحن الإنسان باليقين فتعلق بغير الله، فإن الله تبارك وتعالى يمكر به، ومن مواطن المكر بالإنسان أن يصرف قلبه لغير الله عز وجل، ولذلك تجد بعض من يستعين بالسحرة وبالمشعوذين -والعياذ بالله- يمهلهم الله جل جلاله، ويستدرجهم بتفريج الخطوب والكروب حتى يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، والله ثم إنه -والله- إذا أراد الله بك الضر فلن ينجيك منه أحدٌ سواه، ولذلك استحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكل مؤمن إذا وضع خده ليسلم نفسه للموتة الصغرى أن يقول الدعاء المأثور: إذا أوَيتَ إلى فراشِك فقُلْ : اللهمَّ أسلَمتُ نفسي إليك ، ووجَّهتُ وجهي إليكَ ، وفوَّضْتُ أمري إليك ، وألجَأْتُ ظهري إليك ، رغبةً ورهبةً إليك ، لا ملْجَأَ ولا مَنْجا منك إلا إليك ، آمنتُ بكتابِك الذي أنزلتَ . وبنبيِّك الذي أرسلْتَ . فإنك إن مُتَّ في ليلتِك متَّ على الفطرةِ ، وإن أصبحْتَ أصبْتَ أجرًا"
    الراوي : البراء بن عازب | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري
    الصفحة أو الرقم: 7488 | خلاصة حكم المحدث : صحيح.
    وفوَّضْتُ أمري إليك ، أي: توكَّلتُ في جميع أموري عليك، راجيًا أن تَكفيَني كلَّ شيء، وتَحميَني من كلِّ سوء،
    فلا يظن الإنسان أن أحدًا ينجيه من الله عز وجل، ولذلك أول ما يفكر فيه الإنسان إذا نزلت به المصيبة أو حلّت به بلية أن يتجه إلى الله وحده لا شريك له.
    وقف إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع تلك المرأة الضعيفة، مع صبي ضعيف في وادٍ، -أمره الله بالهجرة إليه- غير ذي زرع، لا أنيس به ولا جليس، فكان صلوات الله وسلامه عليه مستجيبًا لأمر ربه مسلَّمًا لخالقه كما وصفه الله في كتابه، فجاءته تلك المرأة الضعيفة وتعلّقت به بعد أن حطَّ رحالها وتركها وصبيها، فقالت: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟ فأعرض عنها عليه الصلاة والسلام كأنه يقول لها: أنت تعلمين لمن أدعك .. فمضى إلى الوادي، فجرت وراءه وقالت: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟ فنظر إليها ثم أعرض عنها، ثم في المرة الثالثة، تعلقت به وقالت: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟ فقال: لله، قالت: إذاً لا يخيبنا الله، فوقع ما وقع لها ولصبيها فاستغاثت بالله عز وجل واستجارت في شربة ماء لها ولطفلها، ففجّر الله عز وجل الماء من تحت قدم صبيها. فمن أيقن بالله عز وجل في أي شدة أو أي خطب فإن الله لا يضيعه.
    "رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ "إبراهيم37

    *"أولُ ما اتَّخَذَ النساءُ المِنْطَقَ من قِبَلِ أم إسماعيلَ ، اتخذتْ مِنْطَقًا لتُعفي أَثَرها على سارةَ ، ثم جاء بها إبراهيمُ وبابنها إسماعيلَ وهي تُرْضِعُهُ ، حتى وضعها عند البيتِ ، عند دَوْحَةٍ فوق زمزمَ في أعلى المسجدِ ، وليس بمكةَ يومئذٍ أحدٌ ، وليس بها ماءٌ ، فوضعهما هنالك ، ووضع عندهما جِرَابًا فيهِ تمرٌ ، وسقاءً فيهِ ماءٌ ، ثم قَفَّى إبراهيمُ منطلقًا ، فتبعتْهُ أمُّ إسماعيلَ ، فقالت : يا إبراهيمُ ، أين تذهبُ وتتركنا بهذا الوادي ، الذي ليس فيهِ إنسٌ ولا شيٌء ؟ فقالت لهُ ذلك مرارًا ، وجعل لا يتلفتُ إليها ، فقالت لهُ : آللهُ الذي أمرك بهذا ؟ قال : نعم ، قالت : إذن لا يُضَيِّعُنَا ، ثم رجعت ، فانطلقَ إبراهيمُ حتى إذا كان عند الثَّنِيَّةِ حيثُ لا يرونَهُ ، استقبلَ بوجهِهِ البيتَ ، ثم دعا بهؤلاءِ الكلماتِ ، ورفع يديهِ فقال : رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ - حتى بلغ - يَشْكُرُونَ . وجعلت أمُّ إسماعيلَ تُرْضِعُ إسماعيلَ وتشربُ من ذلك الماءِ ، حتى إذا نفد ما في السِّقَاءِ عطشتْ وعطشَ ابنها ، وجعلت تنظرُ إليهِ يَتَلَوَّى ، أو قال يتلبَّطُ ، فانطلقت كراهيةَ أن تنظرَ إليهِ ، فوجدتِ الصفا أقربُ جبلٍ في الأرضِ يليها ، فقامت عليهِ ، ثم استقبلتِ الوادي تنظرُ هل ترى أحدًا فلم تَرَ أحدًا ، فهبطتْ من الصفا حتى إذا بلغتِ الوادي رفعتْ طرفَ درعها ، ثم سعت سعيَ الإنسانِ المجهودِ حتى إذا جاوزتِ الوادي ، ثم أتتِ المروةَ فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا فلم تَرَ أحدًا ، ففعلت ذلك سبعَ مراتٍ . قال ابنُ عباسٍ : قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : ( فذلك سعيُ الناسِ بينهما ) . فلما أشرفت على المروةِ سمعت صوتًا ، فقالت صَهْ - تريدُ نفسها - ثم تَسَمَّعَتْ ، فسمعت أيضًا ، فقالت : قد أُسْمِعْتُ إن كان عندكَ غَوَاثٌ ، فإذا هي بالمَلَكِ عند موضعِ زمزمَ ، فبحث بعقبِهِ ، أو قال : بجناحِهِ ، حتى ظهرِ الماءِ ، فجعلت تَحُوضُهُ وتقولُ بيدها هكذا ، وجعلت تغرُفُ من الماءِ في سقائها وهو يفورُ بعد ما تغرفُ . قال ابنُ عباسٍ : قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : ( يرحمُ اللهُ أم إسماعيلَ ، لو كانت تركت زمزمَ - أو قال : لو لم تغرف من الماءِ - لكانت زمزمُ عينًا معينًا ) . قال : فشربت وأرضعتْ ولدها ، قال لها الملَكُ : لا تخافوا الضَّيْعَةَ ، فإنَّ ها هنا بيتُ اللهِ ، يبني هذا الغلامُ وأبوهُ ، وإنَّ اللهَ لا يُضَيِّعُ أهلَهُ . وكان البيتُ مرتفعًا من الأرضِ كالرابيةِ ، تأتيهِ السيولُ ، فتأخذُ عن يمينِهِ وشمالِهِ ، فكانت كذلك حتى مَرَّتْ بهم رفقةٌ من جُرْهُمَ ، أو أهلُ بيتٍ من جُرْهُمَ ، مقبلينَ من طريقِ كَدَاءٍ ، فنزلوا في أسفلِ مكةَ ، فرأوا طائرًا عائفًا ، فقالوا : إنَّ هذا الطائرَ ليدورُ على ماءٍ ، لعهدنا بهذا الوادي وما فيهِ ماءٌ ، فأرسلوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فإذا هم بالماءِ ، فرجعوا فأخبروهم بالماءِ فأقبلوا ، قال : وأمُّ إسماعيلَ عند الماءِ ، فقالوا : أتأذنينَ لنا أن ننزلَ عندكِ ؟ فقالت : نعم ، ولكن لا حقَّ لكم في الماءِ ، قالوا : نعم . قال ابنُ عباسٍ : قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : ( فألفى ذلك أمُّ إسماعيلَ وهي تُحِبُّ الأُنْسَ ) . فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم ، حتى إذا كان بها أهلُ أبياتٍ منهم ، وشبَّ الغلامُ وتعلَّمَ العربيةَ منهم ، وأنفسهم وأعجبهم حين شبَّ ، فلما أدركَ زوَّجوهُ امرأةً منهم ، وماتت أمُّ إسماعيلَ ، فجاء إبراهيمُ بعد ما تزوجَ إسماعيلُ يُطالعُ تَرِكَتَهُ ، فلم يجد إسماعيلَ ، فسأل امرأتَهُ عنهُ فقالت : خرج يبتغي لنا ، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم ، فقالت : نحنُ بشرٌ ، نحنُ في ضيقٍ وشدةٍ ، فشكت إليهِ ، قال : فإذا جاء زوجكِ فاقرئي عليهِ السلامَ ، وقولي لهُ يُغَيِّرْ عتبةَ بابِهِ ، فلما جاء إسماعيلُ كأنَّهُ آنسَ شيئًا ، فقال : هل جاءكم من أحدٍ ؟ قالت : نعم ، جاءنا شيخٌ كذا وكذا ، فسأَلَنَا عنكَ فأخبرتُهُ ، وسألني كيف عيشنا ، فأخبرتُهُ أنَّا في جهدٍ وشدةٍ ، قال : فهل أوصاكِ بشيٍء ؟ قالت : نعم ، أمرني أن أقرأَ عليك السلامَ ، ويقولُ : غَيِّرْ عتبةَ بابكَ ، قال : ذاك أبي ، وقد أمرني أن أُفَارِقَكِ ، الحقي بأهلِكِ ، فطلَّقها ، وتزوَّجَ منهم أخرى ، فلبثَ عنهم إبراهيمُ ما شاء اللهُ ، ثم أتاهم بعدُ فلم يجدْهُ ، فدخل على امرأتِهِ فسألها عنهُ ، قالت : خرج يبتغي لنا ، قال : كيف أنتم ؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم ، قالت : نحنُ بخيرٍ وسِعَةٍ ، وأثنتْ على اللهِ . فقال : ما طعامكم ؟ قالت : اللحمُ . قال : فما شرابكم ؟ قالت : الماءُ . قال : اللهمَّ بارِكْ في اللحمِ والماءِ . قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : ( ولم يكن لهم يومئذٍ حَبٌّ ، ولو كان لهم دعا لهم فيهِ ) . قال : فهما لا يَخلو عليهما أحدٌ بغيرِ مكةَ إلا لم يُوافقاهُ . قال : فإذا جاء زوجكِ فاقرئي عليهِ السلامَ ، ومُرِيهِ يُثَبِّتْ عتبةَ بابِهِ ، فلما جاء إسماعيلُ قال : هل أتاكم من أحدٍ ؟ قالت : نعم ، أتانا شيخٌ حسنُ الهيئةِ ، وأثنتْ عليهِ ، فسألني عنك فأخبرتُهُ، فسألني كيف عيشنا فأخبرتُهُ أنَّا بخيرٍ ، قال : فأوصاكِ بشيٍء ، قالت : نعم ، هو يقرأُ عليك السلامَ ، ويأمرك أن تُثَبِّتْ عتبةَ بابكَ ، قال : ذاك أبي وأنتِ العتبةُ ، أمرني أن أُمْسِكَكِ ، ثم لبث عنهم ما شاء اللهُ ، ثم جاء بعد ذلك ، وإسماعيلُ يَبْرِي نَبْلًا لهُ تحت دَوْحَةٍ قريبًا من زمزمَ ، فلما رآهُ قام إليهِ ، فصنعا كما يصنعُ الوالدُ بالولدِ والولدُ بالوالدِ ، ثم قال : إنَّ اللهَ أمرني بأمرٍ ، قال : فاصنع ما أمر ربكَ ، قال : وتُعينني ؟ قال : وأُعينكَ ، قال : فإنَّ اللهَ أمرني أن أبني ها هنا بيتا ، وأشار إلى أَكْمَةٍ مرتفعةٍ على ما حولها ، قال : فعند ذلك رفعا القواعدَ من البيتِ ، فجعل إسماعيلُ يأتي بالحجارةِ وإبراهيمُ يبني ، حتى إذا ارتفعَ البناءُ ، جاء بهذا الحجرِ ، فوضعَهُ لهُ فقام عليهِ ، وهو يبني وإسماعيلُ يُنَاوِلُهُ الحجارةَ ، وهما يقولانِ : رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . قال : فجعلا يبنيانِ حتى يدورا حول البيتِ وهما يقولانِ : رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ .
    الراوي : عبدالله بن عباس | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري
    الصفحة أو الرقم: 3364 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح

    شرح الحديث :
    يَحكي ابنُ عَبَّاس رضي الله عنهما أنَّ أوَّلَ ما اتَّخَذَ النِّساءُ "المِنْطَقَ"، وهو: قِطْعةٌ مِن قُماشٍ تَشُدُّ بِها المَرأةُ وسطَها، وتَجُرُّ أسفَلَه عَلى الأرضِ، كانَ مِن جِهةِ هاجَرَ أُمِّ إِسْماعيلَ، وسَبَبُه أنَّ سارةَ كانت قَدْ وهَبَتْ هاجَرَ لِإِبْراهيمَ عليه السَّلام، فَلمَّا وَلَدَتْ إِسْماعيلَ غارَتْ منها، فَشَدَّت المِنْطَقَ، وصارَتْ تَجُرُّ أسفَلَه عَلى الأرضِ؛ لِتُخفي آثارَ أقدامِها، ثمَّ أمَرَه اللهُ تَعالى أن يَذهَبَ بِها إلى مَكَّةَ فَفَعَلَ، ولَم يَكُن هُناكَ بَيْتٌ ولا بِناءٌ ولا زَرْعٌ ولا ماءٌ، فَوَضَعَها تَحْتَ شَجرةٍ هُناكَ فَوْقَ مَكان زَمْزَمَ، وكانَ إِسْماعيلُ رَضيعًا، ومَكَّةُ صَحْراءَ قاحِلةً، وتَرَكَ لها جِرابَ تَمرٍ وسِقاءَ ماءٍ، وعاد راجِعًا إلى الشَّامِ، فَقالت له: أينَ تَذهَب وتَترُكنا بِهذا الوادي الَّذي لا إِنْسَ فيه ولا شَيءَ؟ وأعادَت السُّؤالَ مِرارًا، فَلَمَّا لَم يُجِبْها، سَألَتْه: هَلْ أمَرَك اللهُ بِذَلِكَ؟ فَأجابَها: نَعَم، قالت: ما دامَ قَد أمَرَك بِذَلِكَ، فَلَن يُضَيِّعَنا، وسارَ إِبْراهيمُ عليه السَّلام مُتَضَرِّعًا إلى اللهِ مُتَوجِّهًا إلى بَيتِه الحَرامِ داعيًا: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ}، أي: لا نَباتَ فيه عِندَ بَيتِك المُحَرَّمِ، {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ}، أي: إِنَّما جَعَلته مُحَرَّمًا؛ ليَتَمَكَّن أهْلُه مِن إِقامةِ الصَّلاةِ عِندَه، {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}، أي: فاجْعَلْ جَماعاتٍ مِن النَّاسِ تَأتيهم {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}، أي: ليَكونَ ذلك عَونًا لهم عَلى طاعتِك. وجَعَلَتْ هاجَرُ تُرضِع إِسْماعيلَ عليه السَّلام، وتَشْرَب مِن ذلك الماءِ، حَتَّى إِذا نَفِدَ ما في السِّقاءِ عَطِشَتْ وعَطِشَ ابنُها، وجَعَلَتْ تَنظُر إليه "يَتَلَوَّى"، أي: يَتَلَفَّت، أو قالَ "يَتَلَبَّط"، أي: يُحرِّك لِسانَه، ويَكاد يَموتُ مِن شِدَّةِ العَطشِ، فَلَم تُطاوِعْها نَفْسُها أن تَراه عَلى تِلْكَ الحالةِ، فانْطَلَقَتْ كَراهيةَ أن تَنظُرَ إليه وهو عَلى وشْكِ أن يَموتَ مِن العَطشِ، ثمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإِنْسانِ المَجْهودِ تَبحَث عَن الماءِ بَينَ الصَّفا والمَرْوةِ سَبْعَ مَرَّات، فَشَرَع اللهُ لِلنَّاسِ السَّعْيَ في الحَجِّ مِن أجْلِ ذَلِكَ. فَلَمَّا أشْرَفتْ عَلى المَرْوةِ سَمِعَتْ صَوْتًا، فَقالت: "صَهٍ" تُريدُ نَفْسَها، أي: طَلَبَتْ مِن نَفْسِها السُّكوتَ؛ لِكَي تَتعَرَّفَ عَن مَصدَرِ الصَّوتِ، ومِن أيْنَ أتى. ثمَّ تَسَمَّعتْ فَسَمِعَتْ أيْضًا الصَّوْتَ مَرَّة أُخرى، فَقالت: قَدْ أسْمَعتَ إِن كانَ عِنْدَك "غِواثٌ"، يَعْني: قَدْ سَمِعت صَوْتك، فَإِنْ كانَ عِنْدَك ما يُغيثني فَأغِثْني. فَإِذا هيَ بالمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِع زَمْزَمَ فَبَحَثَ بِعَقِبِه، أو قالَ بِجَناحِه حَتَّى ظَهَرَ الماءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضه، وتَقولُ بيَدِها هَكَذا، أي: فَصارَتْ تُحيطه بالتُّرابِ وتَجْعَله حَوْضًا، لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ ولَم تُحَوِّضها لَصارَتْ عَيْنًا مَعينًا، أي: عَيْنًا جاريةً عَلى وجْهِ الأرضِ. فَقالَ لها المَلَكُ: لا تَخافوا "الضَّيْعةَ"، أي: لا تَخافوا الضَّياعَ والهَلاكَ؛ لِأنَّكم تَحْتَ رِعايةِ اللهِ تَعالى. وكانَ البَيْتُ مُرتفِعًا مِن الأرْضِ كالرَّابيةِ، أي: مُرتفِعًا قَليلًا. ثمَّ مَرَّ بِذَلِكَ المَكانِ، أو بالقُربِ مِنه جَماعةٌ مُسافِرونَ مِن جُرْهُمٍ مَرُّوا بِأعْلى مَكَّةَ، فَرَأوْا طَيْرًا حائِمًا عَلى الماءِ، فَعَرَفوا أنَّ بِهذا الوادي ماءً، وكانَ عَهدهم بِه أنَّه وادٍ مُقْفِرٌ، فَأرْسَلوا رَسولًا مِن قِبَلهم، أو رَسولَيْنِ؛ ليَكشِفَ لهم عَن الحَقيقةِ، فَرَجَعَ إليهم رُسُلُهم يُخبِرونهم عَن وُجودِ ماءٍ في تِلْكَ البُقْعةِ، فَأقْبَلوا عَلى أُمِّ إِسْماعيلَ، واستَأذَنوا منها بالنُّزولِ في جِوارِها، فَأذِنَتْ لهم بِذَلِكَ، عَلى أن لا يَكونَ لهم حَقُّ التَّمَلُّكِ في ذلك الماءِ، وإنَّما لهم أن يَشرَبوا مِنه فَقَطْ، وسَكَنَتْ جُرْهُمٌ مَكَّةَ مُنْذُ ذلك العَهْدِ، واسْتَأْنَسَتْ بِسُكْناهم مَعَها، وشَبَّ الغُلامُ في هذه القَبيلةِ، وتَعَلَّمَ منهم اللُّغةَ العَرَبيَّةَ، ثمَّ لَمَّا بَلَغَ الرُّشدَ زَوَّجوه امْرَأةً منهم اسْمها عِمارةُ بِنْتُ سَعْدٍ، ثمَّ ماتَتْ أُمُّ إِسْماعيلَ، فَجاءَ إِبْراهيمُ عليه السَّلامُ بَعدَما تَزَوَّجَ إِسْماعيلُ عليه السَّلامُ، يُطالِع تَرِكتَه، أي: يَتَفَقَّد حالَ أهْلِه ووَلَدِه، فَلَم يَجِد إِسْماعيلَ عليه السَّلام، فَسَألَ امْرَأتَه عَنْه، فَقالت: خَرَجَ يَبْتَغي لَنا، أي: يَطلُب لَنا الرِّزْقَ، ثمَّ سَألَها عَن عَيْشِهم وهَيْئتِهم، أي: حالتِهم، فَقالت: نَحْنُ بِشَرٍّ، نَحْنُ في ضيقٍ وشِدَّةٍ، فَشَكَتْ إليه، قالَ: فَإِذا جاءَ زَوْجُك فاقْرَئي عليه السَّلامَ، وقولي له: يُغَيِّر عَتبةَ بابِه، فَلَمَّا جاءَ إِسْماعيلُ عليه السَّلام، كَأنَّه آنَسَ شَيْئًا، فَقالَ: هَلْ جاءَكم مِن أحَد؟ أيْ: فَلَمَّا جاءَ إِسْماعيلُ عليه السَّلامُ، وكانَ قَدْ أحَسَّ في نَفْسِه أنَّه جاءَها أحَد، فَسَألَها قائِلًا: هَلْ جاءَكم مِن أحَد؟ قالت: نَعَم جاءَنا شَيْخ كَذا وكَذا، أي: صِفتُه كَذا، وأخْبَرَتْه بِكُلِّ ما دارَ. فَقالَ: ذاكَ أبي، وقَدْ أمَرَني أن أُفارِقَك، أي: أن أُطَلِّقَك، الْحَقي بِأهلِك، أي: أنْتِ طالِقٌ فاذْهَبي إلى أهْلِك. وتَزَوَّجَ منهم امْرَأةً أُخرى وهيَ رَعْلةُ بِنْتُ مُضامِن، فَلَبِثَ عَنْهُم إِبْراهيمُ عليه السَّلامُ مُدَّةً مِن الزَّمَنِ ثمَّ أتاهم بَعْدَ فلَم يَجِده، فَدَخَلَ عَلى امْرَأتِه، فَسَألَها عَنْه، قالت: خَرَجَ يَبْتَغي لَنا، أي: يَسْعى في طَلَبِ الرِّزقِ. قالَ: كَيْفَ أنْتُم، وسَألَها عَن عَيْشِهم وهَيْئتِهم؟ فَقالت: نَحْنُ بِخَيْرٍ وسَعةٍ، أي: نَحْنُ في نِعمةٍ مِن الله وسَعةٍ في الرِّزقِ وأثْنَت عَلى الله، أي: حَمِدَت رَبَّها وشَكَرَتْه؛ لِأنَّها كانت راضيةً بِما قَسَمَ لها، شَأْن المَرْأةِ الصَّالِحةِ، فَقالَ: ما طَعامُكم؟ قالت: اللَّحْمُ، قالَ: فَما شَرابُكم؟ قالت: الماءُ، أي: فَسَألَها عَن طَعامِهم وشَرابِهم الَّذي يَعيشونَ عليه، فَذَكَرَتْ أنَّ طَعامَهم اللَّحْم، وشَرابَهم الماء. فَدَعا لهم بالبَرَكةِ في اللَّحْمِ والماءِ، فَكانوا يَقْتَصِرونَ عليهما دونَ أن يَتَضَرَّروا منهما، وأصْبَحَ ذلك خاصًّا بِمَكَّةَ دونَ غَيرِها مِن البِلادِ، فَإِنَّه لا يَقتَصِر أهْل بَلَدٍ عليهما إلَّا تَضَرَّروا منهما، كَما قالَ: فَهُما لا يَخْلو عليهما أحَدٌ بِغَيرِ مَكَّةَ إلَّا لَم يوافِقاه، لَيْسَ أحَد يَخْلو عَلى اللَّحْمِ والماءِ بِغَيْرِ مَكَّةَ إلَّا اشْتَكى بَطنَه، قالَ: فَإِذا جاءَ زَوجُك فاقْرَئي عليه السَّلامَ، ومُريه يُثبِت عَتَبةَ بابِه، فَلَمَّا جاءَ إِسْماعيلُ عليه السَّلامُ قالَ: هَلْ أتاكم أحَد؟ فَأخْبَرتْه عَن الشَّيْخِ الَّذي جاءَها في غيابِه، وبِأوصافِه وما دارَ بَينَه وبَينَها. فَقالَ: ذاكَ أبي وأنْتِ العَتَبةُ، أمَرَني أن أُمسِكَك، أي: أن أُبقيَك في عِصمَتي. ثمَّ جاءَ بَعْدَ ذَلِكَ، وإسْماعيلُ عليه السَّلام يَبْري نَبْلًا، أي: يَنْحِت سَهْمًا ويُصلِحه. فَلَمَّا رَآه قامَ إليه فَصَنَعا كَما يَصنَع الوالِدُ بالوَلَدِ والوَلَدُ بالوالِدِ، أي: فَعانَقَه مُعانَقةَ الوالِدِ لِوَلَدِه. ثمَّ قالَ: يا إِسْماعيلُ، إِنَّ اللهَ أمَرَني بِأمرٍ، أي: أمَرَني أن أقومَ بِعَملٍ في هذا المَكانِ، ثمَّ طَلَبَ مِن ولَدِه إِسْماعيلَ عليه السَّلام أن يُعينَه عليه، ثمَّ قالَ: إِنَّ الله أمَرَني أن أبْنيَ هاهُنا بَيْتًا، وأشارَ إلى "أكَمةٍ مُرتَفِعةٍ"، أي: إلى رَبْوةٍ مُرتفعةٍ قَليلًا عَن سَطحِ الأرْضِ؛ ليُبَيِّن له المَكانَ الَّذي أُمِرَ بِبَناء الكَعْبةِ فيه، قالَ: فَعِنْدَ ذلك "رَفَعا القَواعِدَ"، أي: شَرَعا في البِناءِ حَتَّى رَفَعا الأُسُسَ الَّتي يَقومُ عليها البَيْتُ. فَجَعَلَ إِسْماعيلُ عليه السَّلامُ يَأْتي بالحِجارةِ، وإبْراهيمُ عليه السَّلامُ يَبْني، حَتَّى إِذا ارْتَفعَ البِناءُ وعَلا وأصْبَحَ لا تَطولُه يَدُه. جاءَ بِهذا الحَجَرِ المَوْجودِ حاليًّا في المَقامِ، فَقامَ عليه، وإسْماعيلُ عليه السَّلامُ يُناوِله الحِجارةَ، وهُما يَقولانِ: "رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" فَيَدْعوانِ اللهَ بِقَبولِ بِنائِهما هذا، والرِّضا عَنْهما فيه؛ لِأنَّه السَّميعُ لِدُعائِهما، العَليمُ بِبِنائِهما.الدرر.
    فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه وصفاته أن يرزقنا وإياكم حلاوة اليقين، وأن يرزقنا وإياكم كمال الإيمان بالله رب العالمين. اللهم إنا نسألك يقينًا لا يخالطه شك، ونسألك إيمانًا لا يخالطه شرك، ونسألك الصدق في حبك والشوق إلى لقائك، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

      مواضيع مماثلة

      -

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس مايو 02, 2024 2:09 pm