نظرات وتأملات في خصائص سورة الكهف
عند تلاوتنا وتدبرنا للقرآن لابد من استشعار أن هذا كلام الله عز وجل، تكلم به حقيقة هدى لأهل الأرض.هذا يعطي إجلال وهيبة وهمة عالية لتلاوته وتدارسه للعمل به ، أنزله الله سبحانه وتعالى من السماء إلينا لنتمسك به.
قال صلى الله عليه وسلم " إنَّ هذا القرآنَ سببٌ طرفُه بيدِ اللهِ ، و طرفُه بأيديكم ، فتمسَّكوا به ؛ فإنكم لن تضِلُّوا ولن تهلِكوا بعده أبدًا "الراوي : أبو شريح العدوي خويلد بن عمرو -المحدث : الألباني -المصدر : صحيح الترغيب الصفحة أو الرقم: 38 خلاصة -حكم المحدث : صحيح .
سببٌ: بمعنى حبل . استشعار الإنسان الذي يغرق، استشعار الإنسان في الفتن أن الله أنزل إليه سببًا، أنزل إليه حبلًا ،فتمسك بالحبل، كشعورك كمن كان في سفينة ثم سقط منها في البحر والرياح والأمواج تتلاطمه ،ثم نزل إليه سبب ؛حبل،كيف يتعامل مع هذا السبب؟ يتمسك به،فكذلك ينبغي للإنسان أن يتعامل مع القرآن بهذه الطريقة ، أن الله سبحانه وتعالى أنزل إليه هذا السبب؛هذا الحبل في وسط الظلمات؛في وسط الفتن ،قال تعالى"الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ "إبراهيم:1.
وقفات وتأملات في بعض خصائص سورة الكهف:
سورة الكهف سورة مكية تضمنت أربع قصص، يجمعها معنى واحد وهو الفتنة وأسباب النجاة منها.
ومن الملاحظ أن اسم السورة: الكهف، يناسب مقصودَها، فمقصود الكهف: سِترُ ووقاية من بداخله من الريحِ والمطرِ والشمسِ وغيرِها، ومقصود هذه السورة: الوقاية من الفتن المختلفة.
*الفتنة الأولى: فتنة الدين في قصة أهل الكهف، "إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ" شباب آمنوا بربهم في أناس مشركين ، وعَلِمُوا حقَّ اللهِ تعالى في قوم جاهلين؛ فكان ذلك سببًا لفتنتهم في دينهم، فلم يستسلموا لقومِهم، ولم يتبعوهم في ضلالهم، بل أعلنوا توحيدهم لله تعالى، كما أعلنوا براءتهم مما يعبد قومهم."وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا "14."هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا"15.
ثم أَتْبَعُوا القولَ بالعملِ فَتَبَرَّؤُوا من المشركينَ واعتزلوهم، وآووا إلى الكهف فِرارًا بدينهم، فكان جزاؤهم في الدنيا تلك الكرامة العظيمة بنومتهم في الكهف ثلاثمئة سنة وازدادوا تسعًا في كهفهم، ونجاتهم من الكفار وكيدهم.
"وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا"15.
وَقَوْله " وَيُهَيِّئ لَكُمْ مِنْ أَمْركُمْ مِرْفَقًا " يَقُول : وَيُيَسِّر لَكُمْ مِنْ أَمْركُمْ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ الْغَمّ وَالْكَرْب خَوْفًا مِنْكُمْ عَلَى أَنْفُسكُمْ وَدِينكُمْ مِرْفَقًا , وَيَعْنِي بِالْمِرْفَقِ : مَا تَرْتَفِقُونَ بِهِ مِنْ شَيْء .تفسير ابن كثير.
وفيما تقدم، أخبر أنهم دعوه بقولهم "إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا" 10. فجمعوا بين التبري من حولهم وقوتهم، والالتجاء إلى الله في صلاح أمرهم، ودعائه بذلك، وبين الثقة بالله أنه سيفعل ذلك، لا جرم أن الله نشر لهم من رحمته، وهيأ لهم من أمرهم مرفقًا، فحفظ أديانهم وأبدانهم، وجعلهم من آياته على خلقه، ونشر لهم من الثناء الحسن، ما هو من رحمته بهم، ويسر لهم كل سبب، حتى المحل الذي ناموا فيه، كان على غاية ما يمكن من الصيانة.تفسير السعدي.
ثم تشير الآيات إلى أسباب النجاة من فتنة الدين، بالثبات على المبدأ، وملازمة الصحبة الصالحة، مع مجانبة أهل الغفلة وأتباع الهوى، وتَذَكُّر الآخرة:
"وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا * وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا"الكهف:28-29.
*الفتنة الثانية: فتنة المال في قصة صاحب الجنتين الذي أسبغ الله عليه نِعَمَهُ، فكفر بأنعمِ اللهِ ونسيَ أمرَ الساعةِ، وتكبر على الناس بمالِه، فأذهب الله تعالى زهرة جنته، وجعلها خرابًا ً،"وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا" الكهف:42. يقول ماذا؟ هل تمنى جنة أخرى؟ أو جنة أحسن منها؟ لا، لقد أيقن أن الأرض كلها لا تساوي شيئا مع الشرك بالله، فقال"يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا"الكهف:42. فالحمد لله الذي جعلنا من عباده المؤمنين، وما جعلنا من المشركين.
إن فتنة المال من أعظم الفتن قديمًا وحديثًا، وزادت الفتنة به في هذا العصر بسبب سيادة النظم الرأسمالية على أسواق المال والأعمال في العالم.
فمَنْ فُتِنَ بالمالِ فعطَّلَ الفرائضَ، وجاوزَ الحلالَ إلى الحرامِ، فليأخذ عبرة وعظة من قصة صاحب الجنتين، ولينظر في ما بعدها من آيات تبين سبيل النجاة من فتنة المال، بالقناعة والزهد وفهم حقيقة الدنيا وغرورها، وتذكر الآخرة
"وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا"الكهف:45-46.
ولينظر بعدها إلى الدار بالآخرة وشدة الحساب والكتاب الذي يُحصِي الصغيرةَ والكبيرةَ؛ كما يُحصِي التجارُ في الدنيا المالَ ويرصدونَهُ.
*الفتنة الثالثة: فتنة العلم في قصة موسى عليه السلام مع الْخَضِر وكان موسى عليه السلام ظنّ أنه أعلم أهل الأرض، فأوحى له الله تعالى بأن هناك من هو أعلم منه فذهب للقائه والتعلم منه، فلم يصبر على ما فعله الْخَضِر لقصور علمه عن الحكمة في أفعاله.
ثم تأتي آية العصمة من فتنة العلم بنسبته لله –تعالى- وبالتواضع للحق والخلق، وعدم الغرور بالعلم، فها هو الْخَضِر -عليه السلام- لم يغترَّ بعلمه، بل نسب ذلك إلى الله تعالى؛ اعترافا بفضله وحمدا له فقال"رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي"الكهف:82. ويتواضع له موسى بقوله"قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا"الكهف:69.
الفتنة الرابعة: فتنة السلطان في قصة ذي القرنين، الملك العادل الذي مَلَكَ مشارقَ الأرضِ ومغاربَهَا، وآتاه الله تعالى من كل شيء سببًا.
إنها فتنة السلطان الغالب والقوة القاهرة، التي تقود إلى البطش والظلم والأثرة، ونجد علاج هذه الفتنة في صفات هذا الملك الصالح الذي لم يتجبر بسلطانه، ولم يستعل على الناس بقوته؛ بل قام بإحقاق الحق وإزهاق الباطل وإقامة العدل، ورفع الظلم، ونصر المظلوم.
ثبت إيمانه وعدله في قوم ظهر عليهم وخيره الله –تعالى- فيهم، فحكم فيهم بحكم الشريعة العادلة"قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا"الكهف:88.
ثم ظهر تسخيره لسلطانه وقوته فيما طاعة الله، عندما مر بقوم من الترك شَكُوا إليه إغارة يأجوج ومأجوج عليهم، ورجوه أن يبني حاجزًا يحجزهم عنهم مقابل مال يدفعونه إليه، فتعفَّف عن جُعْلِهم، وبادر إلى نجدتهم وبناء السد، معترفًا بفضلِ اللهِ تعالى عليه بالسلطان والمال "قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا" الكهف:95.
وانظر إلى حُسن سياستِهِ حينما أشركهم في العمل والبناء، فلما تم البناء نسب الفضل في ذلك لله –تعالى- صاحب الفضل والرحمة "قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا"الكهف:98.
ومن اللطائف والحكم أن الفتن الأربع المذكورة في السورة اجتمعت في الدجال: فهو فتنة في الدين، إذ يفتن الناس في دينهم، ويدعوهم إلى الشرك، ويقهرهم عليه, وهو فتنة في المال إذ يمر بالخربة فتتبعه كنوزُهَا ويأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت, وهو فتنة في العلم إذ يخبر الرجل عن أبيه وأمه، ويقطع الرجل بسيفه حتى يمشي بين نصفيه ثم يدعوه فيأتي بأمر الله تعالى، وهو في فتنة في السلطان؛ إذ تدين له الممالك، ويعيث في الأرض فسادًا، وما من بلد إلا يبلغها سلطانه إلا مكة والمدينة.
فقراءة سورة الكهف تكون سببًا للنجاة من جميع فتن الدجال..ملتقى الخطباء.
عند تلاوتنا وتدبرنا للقرآن لابد من استشعار أن هذا كلام الله عز وجل، تكلم به حقيقة هدى لأهل الأرض.هذا يعطي إجلال وهيبة وهمة عالية لتلاوته وتدارسه للعمل به ، أنزله الله سبحانه وتعالى من السماء إلينا لنتمسك به.
قال صلى الله عليه وسلم " إنَّ هذا القرآنَ سببٌ طرفُه بيدِ اللهِ ، و طرفُه بأيديكم ، فتمسَّكوا به ؛ فإنكم لن تضِلُّوا ولن تهلِكوا بعده أبدًا "الراوي : أبو شريح العدوي خويلد بن عمرو -المحدث : الألباني -المصدر : صحيح الترغيب الصفحة أو الرقم: 38 خلاصة -حكم المحدث : صحيح .
سببٌ: بمعنى حبل . استشعار الإنسان الذي يغرق، استشعار الإنسان في الفتن أن الله أنزل إليه سببًا، أنزل إليه حبلًا ،فتمسك بالحبل، كشعورك كمن كان في سفينة ثم سقط منها في البحر والرياح والأمواج تتلاطمه ،ثم نزل إليه سبب ؛حبل،كيف يتعامل مع هذا السبب؟ يتمسك به،فكذلك ينبغي للإنسان أن يتعامل مع القرآن بهذه الطريقة ، أن الله سبحانه وتعالى أنزل إليه هذا السبب؛هذا الحبل في وسط الظلمات؛في وسط الفتن ،قال تعالى"الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ "إبراهيم:1.
وقفات وتأملات في بعض خصائص سورة الكهف:
سورة الكهف سورة مكية تضمنت أربع قصص، يجمعها معنى واحد وهو الفتنة وأسباب النجاة منها.
ومن الملاحظ أن اسم السورة: الكهف، يناسب مقصودَها، فمقصود الكهف: سِترُ ووقاية من بداخله من الريحِ والمطرِ والشمسِ وغيرِها، ومقصود هذه السورة: الوقاية من الفتن المختلفة.
*الفتنة الأولى: فتنة الدين في قصة أهل الكهف، "إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ" شباب آمنوا بربهم في أناس مشركين ، وعَلِمُوا حقَّ اللهِ تعالى في قوم جاهلين؛ فكان ذلك سببًا لفتنتهم في دينهم، فلم يستسلموا لقومِهم، ولم يتبعوهم في ضلالهم، بل أعلنوا توحيدهم لله تعالى، كما أعلنوا براءتهم مما يعبد قومهم."وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا "14."هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا"15.
ثم أَتْبَعُوا القولَ بالعملِ فَتَبَرَّؤُوا من المشركينَ واعتزلوهم، وآووا إلى الكهف فِرارًا بدينهم، فكان جزاؤهم في الدنيا تلك الكرامة العظيمة بنومتهم في الكهف ثلاثمئة سنة وازدادوا تسعًا في كهفهم، ونجاتهم من الكفار وكيدهم.
"وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا"15.
وَقَوْله " وَيُهَيِّئ لَكُمْ مِنْ أَمْركُمْ مِرْفَقًا " يَقُول : وَيُيَسِّر لَكُمْ مِنْ أَمْركُمْ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ الْغَمّ وَالْكَرْب خَوْفًا مِنْكُمْ عَلَى أَنْفُسكُمْ وَدِينكُمْ مِرْفَقًا , وَيَعْنِي بِالْمِرْفَقِ : مَا تَرْتَفِقُونَ بِهِ مِنْ شَيْء .تفسير ابن كثير.
وفيما تقدم، أخبر أنهم دعوه بقولهم "إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا" 10. فجمعوا بين التبري من حولهم وقوتهم، والالتجاء إلى الله في صلاح أمرهم، ودعائه بذلك، وبين الثقة بالله أنه سيفعل ذلك، لا جرم أن الله نشر لهم من رحمته، وهيأ لهم من أمرهم مرفقًا، فحفظ أديانهم وأبدانهم، وجعلهم من آياته على خلقه، ونشر لهم من الثناء الحسن، ما هو من رحمته بهم، ويسر لهم كل سبب، حتى المحل الذي ناموا فيه، كان على غاية ما يمكن من الصيانة.تفسير السعدي.
ثم تشير الآيات إلى أسباب النجاة من فتنة الدين، بالثبات على المبدأ، وملازمة الصحبة الصالحة، مع مجانبة أهل الغفلة وأتباع الهوى، وتَذَكُّر الآخرة:
"وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا * وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا"الكهف:28-29.
*الفتنة الثانية: فتنة المال في قصة صاحب الجنتين الذي أسبغ الله عليه نِعَمَهُ، فكفر بأنعمِ اللهِ ونسيَ أمرَ الساعةِ، وتكبر على الناس بمالِه، فأذهب الله تعالى زهرة جنته، وجعلها خرابًا ً،"وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا" الكهف:42. يقول ماذا؟ هل تمنى جنة أخرى؟ أو جنة أحسن منها؟ لا، لقد أيقن أن الأرض كلها لا تساوي شيئا مع الشرك بالله، فقال"يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا"الكهف:42. فالحمد لله الذي جعلنا من عباده المؤمنين، وما جعلنا من المشركين.
إن فتنة المال من أعظم الفتن قديمًا وحديثًا، وزادت الفتنة به في هذا العصر بسبب سيادة النظم الرأسمالية على أسواق المال والأعمال في العالم.
فمَنْ فُتِنَ بالمالِ فعطَّلَ الفرائضَ، وجاوزَ الحلالَ إلى الحرامِ، فليأخذ عبرة وعظة من قصة صاحب الجنتين، ولينظر في ما بعدها من آيات تبين سبيل النجاة من فتنة المال، بالقناعة والزهد وفهم حقيقة الدنيا وغرورها، وتذكر الآخرة
"وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا"الكهف:45-46.
ولينظر بعدها إلى الدار بالآخرة وشدة الحساب والكتاب الذي يُحصِي الصغيرةَ والكبيرةَ؛ كما يُحصِي التجارُ في الدنيا المالَ ويرصدونَهُ.
*الفتنة الثالثة: فتنة العلم في قصة موسى عليه السلام مع الْخَضِر وكان موسى عليه السلام ظنّ أنه أعلم أهل الأرض، فأوحى له الله تعالى بأن هناك من هو أعلم منه فذهب للقائه والتعلم منه، فلم يصبر على ما فعله الْخَضِر لقصور علمه عن الحكمة في أفعاله.
ثم تأتي آية العصمة من فتنة العلم بنسبته لله –تعالى- وبالتواضع للحق والخلق، وعدم الغرور بالعلم، فها هو الْخَضِر -عليه السلام- لم يغترَّ بعلمه، بل نسب ذلك إلى الله تعالى؛ اعترافا بفضله وحمدا له فقال"رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي"الكهف:82. ويتواضع له موسى بقوله"قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا"الكهف:69.
الفتنة الرابعة: فتنة السلطان في قصة ذي القرنين، الملك العادل الذي مَلَكَ مشارقَ الأرضِ ومغاربَهَا، وآتاه الله تعالى من كل شيء سببًا.
إنها فتنة السلطان الغالب والقوة القاهرة، التي تقود إلى البطش والظلم والأثرة، ونجد علاج هذه الفتنة في صفات هذا الملك الصالح الذي لم يتجبر بسلطانه، ولم يستعل على الناس بقوته؛ بل قام بإحقاق الحق وإزهاق الباطل وإقامة العدل، ورفع الظلم، ونصر المظلوم.
ثبت إيمانه وعدله في قوم ظهر عليهم وخيره الله –تعالى- فيهم، فحكم فيهم بحكم الشريعة العادلة"قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا"الكهف:88.
ثم ظهر تسخيره لسلطانه وقوته فيما طاعة الله، عندما مر بقوم من الترك شَكُوا إليه إغارة يأجوج ومأجوج عليهم، ورجوه أن يبني حاجزًا يحجزهم عنهم مقابل مال يدفعونه إليه، فتعفَّف عن جُعْلِهم، وبادر إلى نجدتهم وبناء السد، معترفًا بفضلِ اللهِ تعالى عليه بالسلطان والمال "قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا" الكهف:95.
وانظر إلى حُسن سياستِهِ حينما أشركهم في العمل والبناء، فلما تم البناء نسب الفضل في ذلك لله –تعالى- صاحب الفضل والرحمة "قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا"الكهف:98.
ومن اللطائف والحكم أن الفتن الأربع المذكورة في السورة اجتمعت في الدجال: فهو فتنة في الدين، إذ يفتن الناس في دينهم، ويدعوهم إلى الشرك، ويقهرهم عليه, وهو فتنة في المال إذ يمر بالخربة فتتبعه كنوزُهَا ويأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت, وهو فتنة في العلم إذ يخبر الرجل عن أبيه وأمه، ويقطع الرجل بسيفه حتى يمشي بين نصفيه ثم يدعوه فيأتي بأمر الله تعالى، وهو في فتنة في السلطان؛ إذ تدين له الممالك، ويعيث في الأرض فسادًا، وما من بلد إلا يبلغها سلطانه إلا مكة والمدينة.
فقراءة سورة الكهف تكون سببًا للنجاة من جميع فتن الدجال..ملتقى الخطباء.